جنيه واحد

Standard

كنت أمشى فى الشارع أفكر فى حالى و حال الناس من حولى حتى لمحته. دائرة صفراء تحيط بها هالة بيضاء. استوقفنى رؤيته ليس لعلو منزلته فى نفسى و لكن خوفاً أن استهتر به فأحرم منه و من إخوته. انحنيت و أخذته فى يدى. مسحته بمنديل ورقى فعاد له جزء من رونقه و عزته الغائبة. أمسكته فى يدى جنيها مصريا معدنياً. و ما إن لمسته حتى أطبق على صدرى هماً. ماذا أفعل به؟ّ!!
نظرت حولى لأجد أى شخص حولى يكون قد سقط منه فأعطيه له و أرتاح منه. و لكن للأسف لم أجد أحداً. جال فى خاطرى أن ألقيه و كأن شئ لم يكن. و لكن هذا إستهوان بقدره و بالتالى بنعمة الله. ياااه لن أكون جاحداً. بعد تفكير قررت و إرتاحت جداً لهذا القرار. قررت أن أمنحه لأول شخص يصادفنى و أشعر إنه يستحقه بالفعل. إرتسمت على وجهى إبتسامة بلهاء ظناً منى إنى بذلك فاعل خير و حللت أزمة الفقر فى العالم أو على الأقل فى مصر.
مشيت هذه المرة بهدف و ليس أى هدف . فهذا هدف رفيع سامى و هو البحث عن محتاج حقيقى. أخذت أتفحص الناس و كأنى المدعو شرلوك هولمز. وقفت عند طفل صغير جالس على جانب الطريق أمامه فارشاً أكياس من المناديل. و يمسك فى يده كراسة و كتاب لغة عربية للصف الثالث الإبتدائى و يحاول جاهدا أن يكتب بقلم رصاص مقصوف أن يكتب فى الكراسة. يا الله . طفل صغير فى هذا الوقت المتأخر يعمل ليكسب قوته و يذاكر أيضا ليذهب إلى المدرسة فى اليوم التالى. طفل مكافح و مجتهد صحيح. رأيت إنه يستحق أن يأخذ الجنيه فقد يكون هذا هو السبب فى أن يعود الاّن لمنزله و يرتاح قليلا من عناءه اليومى. خطوت الخطوة الأولى و وقفت عندما سمعت يتكلم مع طفل أخر جاء من مكان ما.
يالا نروح كفاية كده. إنتى لميت كام النهاردة؟! –
أنا لميت خمسين جنيه و إنت؟ —
هههه..غلبتك أنا معايا اتنين و ستين جنيه.-
ماذا؟! مائة و إثنا عشر جنيهاً؟! أنا لا احمل مثل هذا المبلغ فى محفظتى. الحمد لله إنى لم أعطى هذا المخادع الصغير شيئاً. بالمقارنة إليه انا الذى أحتاج العطف و ليس هو. أكملت طريقى فى ذهول. راودنى كثيرا ان أعمل مثل ما يعمل سأكسب الملايين. عاد شرلوك هولمز يدور فى الناس. أظنى وجدتها هذه المرة. إمرأة تحمل رضيعها فى بؤس و على وجهها الهم. فجأة رفعت الطفل فوق كتفها ليرى العالم من فوق و يستخدم رأسها كمسند ينام عليه إن أراد. ما لهذه الأم المضحية. ضحت براحتها لينام طفلها هادئا و فى الهواء الطلق. لماذا خرجت وحيدة هكذا و أين زوجها أو أخوها و لماذا لا يعولونها. لمحتنى هى قبل أن أكمل تفكيرى و الظاهر إنها لاحظت إنى أراقبها و قد صعب عليّ حالها. وجدتها تهرول متجهة إلى و لكن لم تكن وحدها. فقد كان هناك أم أخرى تحمل إبنها بنفس الطريقة حتى الإبن قد ظننته نفسه. رأتنى الأخرى مثل ما رأتنى الأولى و هرولت هى الأخرى نحوى. الحقيقة أنا خفت منهن و فكرت أن أجرى و لكن كان على أن أقرر أيهما أحق و بسرعة. إنتهى المارثون الدائر بينهما عندما وصلوا إلى و فى نفس التوقيت. جذبت من ملابسى و نزل أحد الأطفال على كتفى و فمه يسيل منه اللعاب و نزل الأخر إلى الأرض و أخذ يجذب بنطلونى.
يخليك يا بيه… أنا بجرى على يتامى.-
يحميك لشبابك يا بيه الواد جعان من الصبح.–
واد إيه يا ختى . ده إنتى شحتاه؟ —
يا سلام يا ختى يعنى إنتى اللى بتجرى على يتامى يا كدابة —
*&%^&**&&  طب تصدقى إنك لازم تضربى علقة يا بنت-
&%$&%^*%*$$ ده أنا يا –
يكفى هذا القدر من الحوار الدائر بينهما. ولكن الحوار تحول إلى تشابك بالأيدى بينهما و الغريب إنه على مستوى أخر من الطول كانت هناك معركة أخرى دائرة بين الطفلين. إستغللت إنشغالهما و تسللت بعيدا عنهم جميعاً قدر المستطاع. تابعت قليلا المعركة من خلف ساتر . قليلا و ازدادت الحرب عندما إنضمت قوتين أخريتين. صدمت أكثر عندما رأيتهم. إنهم الطفلان المجتهدان و الواضح أن كلا منهما إنضم لأمه فى المعركة. لم أستطع أن أكمل أكثر من ذلك و جريت فى طريق أخر لأبعد عن أى فرد من أفراد هذه الأسر قد يكون لم أصادفه بعد.
نظرت إلى يدى و شعرت أن الجنيه ينظر إلى فى سخرية. مشيت و أنا أجر ذيول الخيبة. لكنى قد وعدت نفسى إنى لن أضع هذا الجنيه فى يد محتالا خصوصاً بعد أن رأيت الكذب بعينى. سمعت صوت شئ يحتك بالأرض. كانت مقشة أحد عمال النظافة و هو يكنس الشارع و دون رقيب عليه. قلت لنفسى لابد أن أتأكد إنه ليس مخادع مثل البقية. مرت إلى جانبه فتاة و أعطته شيئا فى يده.
ربنا يبارك لكِ يا بنتى و يحميكى و ما يحوجك أبداً. –
شعرت إنه ليس مخادعاً فهو لم يطلب شئ و أيضاً هناك غيرى رأى إنه يستحق الإحسان. و لكن كى يطمئن قلبى إنتظرت قليلاً. أسند المقشة جانباً و جلس. لابد إنه يستريح من العمل قليلاً. تفحص قليلا ما أعطته الفتاة ثم وضعه فى جيبه. أحسست بالشفقة ناحيته. لعله يكون جائعا و أراد أن يشترى طعاماً و لكن ما أعطته الفتاة كان قليلا أو يكون متوقفاً على جنيه. شعرت بفرحة عندما رأيته يخرج شيئاً من جيبه فقد كادت نظريتى أن تتحقق. هذه المرة لم أصدم فقط و لكن تقريباً توقفت عن الحركة تماماً و توقفت عن التنفس. فهذا المواطن المحترم المُجِد فى عمله أخرج علبة سجائر و ليست أى نوع و لكن الواضح على هيئتها إنها من النوع المستورد. ضربت أخماساً فى أسداس و مشيت مذهولاً تماماً. مررت أمامه فخبأ ما كان يحمله و أمسك عدته .
كل سنة و إنت طيب يا بيه…ربنا يعيد عليك الأيام بخير.-
نظرت إليه و أخذت أضحك . لم أستطع أن أمنع نفسى من الضحك حتى وصلت إلى المحطة. ركبت الأتوبيس بعد ان قررت أن أذهب إلى البيت و القى بالجنيه العنيد. و لكن لفت إنتباهى صوت
يا نهار أبيض …. الجنيه راح فين. يا رب ألاقيه –
تذاكر يا أخوانا…اللى مبعتش الأجرة يبعت–
نظرت إلى الرجل و وجدت على وجهه جميع الألوان. و الواضح إنه أراد أن يتجنب الإحراج و توجهه ناحية الباب لينزل. تظاهرت إنى ألتقط شيئاً من على الأرض . تتبعتنى عيناه.
يا أستاذ…هو الجنيه ده وقع منك —
إرتسمت على وجهه فرحة لا توصف كما لو كان نجح فى الثانوية العامة و بمجموع كبير
لقيته!!!! ربنا يخليك يا بنى –
و بكل زهو و فخر أعطى الجنيه للكمسرى
خد واحد معاك و هات تذكرة. –

Leave a comment